مقدمة
1
يختزل قسمٌ من الناس علمَ النحو في الإعراب, وربما بالغ بعضهم في التوهم حتى لا يكاد يخطر بباله حين تُذكر اللغةُ العربيةُ — بما تتضمنه من مستوياتٍ صوتية وصرفية ونحوية ودلالية — غير الإعراب. والصحيح أن الإعراب فرعٌ من النَّحْو الذي يشمل أيضًا ما يسمى بنظام الجملة والتركيب.
وإذا تذكرنا الوظيفة الأولى, والمهمة الكبرى التي تُعْنى اللغة بها, وهي إيصال المعاني من المرسل, باللسان, أو بالقلم, إلى المتلقي؛ فإننا نستطيع أن نقترب من المكانة الحقيقية للإعراب, بوصفه وسيلةً من الوسائل اللغوية التي تتعاون وتتضافر مع غيرها من القرائن في تحقيق تلك الغاية.ولعل من مزايا العربية, ودلائل عبقريتها أنها لم تعوِّل في توفير الوضوح على قرينة واحدة, بل حرصت على ما يسمِّيه الدكتور تمام حسان في كتابه القيم:" اللغة العربية مبناها ومعناها" بِـ«تضافر القرائن».
2
إن الأوجه النحوية ليست استكثارًا من تعبيرات لا طائل تحتها، كما يتصور البعض، وإن جواز أكثر من وجه تعبيري ليس معناه أن هذه الأوجه ذات دلالة واحدة، وإن لك الحق أن تستعمل أيها تشاء كما تشاء، وإنما لكلِ وجهٍ دَلالتُه، فإذا أردت معنى ما لزمك أن تستعمل التعبير الذي يؤديه، ولا يمكن أن يؤدي تعبيران مختلفان معنى واحدًا؛ فالأوجه التعبيرية المتعددة إنما هي صور لأوجه دلالية متعددة.
3
هناك فرق بين النحو العملي والنحو النظري؛ فالنحو النظري هو النحو الذي يدرسه المتخصصون وهو يصلح للتعامل مع الأوجه المختلفة للقراءات القرآنية، وكذلك يصلح للتعامل مع اللهجات العربية المختلفة التي نقلها الأوائل، والشعر العربي الذي ارتبط بهذه اللهجات، أما نحن الآن ففي حاجة ماسة وضرورية لنحو منضبط القواعد لا نقول للطالب يجوز ولا يجوز (طبعا هذا في غالب القواعد) وإنما نعطيه قاعدة واحدة يفهما ويطبقها دون مرور على اختلافات وجهات نظر العلماء الأوائل التي نتج بعضها من اختلاف لهجات العرب وكذلك اختلاف روايات الشعر.
عناصر الجملة العربية
(المفردة- البناء الصرفي- تأليف الكلمات- النغمة- التطور التاريخي- السياق- الإعراب)
1- المفردة وهي الكلمة مثل: كتاب – قرأ – في.
2- البناء الصرفي (الصيغة الصرفية) مثل: اسم الفاعل (كاتب)، واسم المفعول (مكتوب)، وصيغة المبالغة (كتّاب). وكما قالوا: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فاختلاف المبنى يدل أيضًا على اختلاف المعنى.
3- التأليف وهو نوعان:
أ- جزئي: رغب إلى- رغب في – رغب عن.
ب- تام: مثل: زيد قائم، إن القائم زيد.
4- النغمة الصوتية: (أو ما يسمى بالنبر والتنغيم).
5- التطور التاريخي للدلالة: وهو اختلاف المعنى باختلاف الزمن مثل: رفع عقيرته، بمعنى صاح. ولله دره من شاعر، وهو تعجب من قيمته كشاعر.
6- السياق: وهو المفهوم العام للموضوع.
7- الإعراب: وسنعطيه من الكلام الكثير لأنه أبرز هذه الظواهر وهذا مثال عليه:
أكرم الناس أحمد.
أكرمَ الناسُ أحمدَ.
أكرمَ الناسَ أحمدُ.
أكرمُ الناسِ أحمدُ.
أكرمِ الناسَ أحمدُ.
مِمَّ تتألف الجملة العربية
الجملة العربية تتألف من ركنين أساسيين هما: المسند والمسند إليه، فالمسند إليه هو المتحدث عنه ولا يكون إلا اسمًا، والمسند هو المتحدث به ويكون فعلًا أو اسمًا، هذان الركنان هما عمدة الكلام وما عداهما فضلة أو قيد.
وليس عبارة فضلة دليل على أنها يمكن الاستغناء عنها، وإنما يعني فقط أنه يمكن أن يتألف كلام بدونها.
صورة تأليف الجملة العربية
يظهر تأليف الجملة العربية بصورتين تبعًا للمسند:
1- فعل مع اسم، وبالتعبير الاصطلاحي: فعل وفاعل أو نائبه، ويصنعان الجملة الفعلية.
2- اسم مع اسم، أو مبتدأ وخبر ويصنعان الجملة الاسمية.
مثل: أقبل سعيد. سعيد مقبل.
وكل التعبيرات الأخرى صور لهذين الأصلين.
والفرق بين هاتين الصورتين أن الجملة التي مسندها فعل تدل على الحدوث أو التجدد، تقدم الفعل أو تأخر، والجملة التي مسندها اسم تدل على الثبوت تقدم الاسم أو تأخر.
مثل: يتعلم سعيد، سعيد متعلم. يتقدم الطب، الطب متقدم.
ففي هذه الجمل يدل الفعل على التجدد والحدوث، والاسم يدل على الثبوت.
فإذا سألت صديقك:
- أتظن أنك تنجح هذا العام؟ أجاب:
- أنا ناجح.
أي لوثوقه بنجاحه استخدم الاسم ليدل به على ثبات فكرة النجاح وأنه أمر منتهٍ.
فإذا أردت الدلالة على الحدوث والتجدد جئت بجملة مسندها فعل تقدم الفعل أو تأخر، وإذا أردت الدلالة على الثبات جئت بجملة مسندها اسم.
وهناك أسباب لتقديم المسند على المسند إليه سنذكرها في حينها.
صور تأليف الكلام:
يتألف الكلام مما يأتي:
1- اسمين. 2- فعل واسم.
3- فعل واسمين. 4- فعل وثلاثة أسماء.
5- فعل وأربعة أسماء. 6- جملتين.
فالاسمان لهما أربع صور، هي:
أ- مبتدأ وخبر، نحو: محمد مجتهد.
ب- مبتدأ وفاعل سدّ مَسَدّ الخبر، نحو: أواثقة السيدتان مما تقولان؟
ج- مبتدأ ونائب فاعل سدّ مسدّ الخبر، نحو: أمضروب أخواك؟
د- اسم فعل مع فاعله، نحو: هيهات العقيقُ.
والاسم والفعل لهما صورتان هما:
أ- فعل وفاعل، نحو: جاء زيدٌ.
ب- فعل ونائب فاعل، نحو: ضُرِب زيدٌ.
وللفعل والاسمين صورة واحدة هي:
كان وأخواتها، نحو: كان الطالبُ مريضًا.
وللفعل وثلاثة الأسماء صورة واحدة، هي:
ظن وأخواتها، نحو: ظنَّ الطالبُ المدرسَ مريضًا.
وللفعل وأربعة الأسماء صورة واحدة، هي:
أَعْلَمَ وأخواتها، نحو: أعلم الجنديُّ القائدَ العدوَّ قادمًا.
وللجملتين صورتان هما:
أ- جملة الشرط وجوابه، نحو: إن جاء محمد أكرمته.
ب- جملة القسم وجوابه، نحو: أقسمُ بالله لأجتهدَنَّ.
دلالة الجملة العربية
ينظر إلى دلالة الجملة العربية من جهتين:
(الدلالة القطعية والاحتمالية- الدلالة الحقيقية والمجازية)
1- الدلالة القطعية والاحتمالية
للجملة العربية دلالتان:
أ- تعبير نصي أو قطعي أي يدل على معنى واحد.
ب- تعبير احتمالي أي يحتل أكثر من معنى.
تقول: الذي يدخل الدار له جائزة. والذي يدخل الدار فله جائزة.
فالجملة الأولى ذات دلالة احتمالية، لأنها تحتمل أنك تعني ب(الذي يدخل الدار) شخصًا معروفًا، وأن الجائزة ليست مترتبة على دخول الدار بل هذا الشخص بعينه يستحقها قبل الدخول، كما تحتمل أن يكون الاسم الموصول مشبهًا بالشرط فيكون المعنى أن الجائزة مترتبة على دخول الدار فمن يدخل الدار فله الجائزة.
أما الجملة الثانية (الذي يدخل الدار فله جائزة.) فذات دلالة قطعية لأنها لا تعني إلا المعنى الثاني أي فيها معنى الشرط، والفاء واقعة في جواب الذي كما تقع في جواب الشرط، أي أن الجائزة مترتبة على دخول الدار فمن يدخل الدار فله الجائزة.
وتقول: أنا ضاربُ زيدٍ (بالإضافة) وأنا ضاربٌ زيدًا، الجملة الأولى لها دلالة احتمالية فهي تعني: الماضي والحال والاستقبال، أما الثانية فقطعية لأنها تدل على الحال والاستقبال.
لأن اسم الفاعل إذا كان ماضيًا يدل على الماضي، أما إذا نصب مفعولًا به فهو يدل على الحال أو الاستقبال.
وتقول: لا رجل في الدار. ولا رجلٌ في الدار. فالأولى نص في نفي الجنس، أما الثانية فتحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة، (أي هناك أكثر من رجل).
وتقول: أكرم زيدًا ضيفًا. وأكرم ضيفَ زيد.
فالجملة الأولى تحتمل أن يكون المقصود إكرام ضيف زيد، كما تحتمل أن يُكرم زيد عندما يكون ضيفًا.
أما الثانية فلا تحتمل إلا إكرام ضيف زيد.
2- الدلالة الحقيقية والمجازية (الظاهرة والباطنة):
الدلالة الظاهرة فهي المعنى الذي يعطيه ظاهر اللفظ مثل: سافر محمد، ونام خالد، خرجت ليلى.
أما المجازية، فهي الدلالة التي تؤدى عن طريق المجاز والكناية كقول الشاعر: رمتني بسهم ريشه الكحل، أي بنظرة من عين بها كحل.
ظاهرة الإعراب
الإعراب من الظواهر المهمة في الجملة العربية
الغرض من الإعراب:
1- الإبانة عن المعاني:
أ- ما صنعتَ وأباك؟ ما صنعت وأبوك؟
ما صنعت مع أبيك؟ ما صنعت أنت وما صنع أبوك؟
ب- إنا كلَّ شيء خلقناه بقدر. إنا كلُّ شيء خلقناه بقدر.
(إنا خلقنا كل شيء بقدر)، ومعناه أن الله خلق كل شيء في الحياة بقدر.
أما الرفع فيحتمل أن تكون خلقناه صفة لشيء وبقدر خبر لكل فيكون المعنى: أن الشيء الذي خلقناه كان بقدر وهذا يعني أن الله لم يخلق كل شيء.
ج- هو قاتلُ المجرمِ. هو قاتلٌ المجرمَ.
«هو قاتلُ المجرمِ»معناه: هو من قتل لأن اسم الفاعل المضاف يدل على الماضي.
أما بالتنوين فيدل على المستقبل لأن اسم الفاعل ينصب مفعولًا به، فهذا يعني أنه لم يقتله بعد.
د- قال أحد الشعراء المعارضين لنظام الحكم الأموي:
فإن يك منكم كان مروان وابنه
وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب
ومنا أميرُ المؤمنين شبيب
فلما بلغ هذا الشعر هشام بن عبد الملك والتقى بالشاعر قال له:
أنت القائل:
ومنا أميرُ المؤمنين شبيب
قال الرجل: لم أقل هذا وإنما قلت:
ومنا أميرَ المؤمنين شبيب.
فتخلص بنصب كلمة أمير، ومعناه: ومنا يا أميرَ المؤمنين شبيب. أما إن أصرّ على الرفع فهو يدل على أنه لا يعترف بهشام أميرًا للمؤمنين ويعترف بغيره وهو شبيب وفي هذا ما فيه.
ه- لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
لا تأكل السمك وتشربِ اللبن. الجمع بين الاثنين في عدم الأكل.
لا تأكل السمك وتشربَ اللبن. الجمع بينهما في الأكل، يعني: إذا أكلت السمك فلا تشرب اللبن.
لا تأكل السمك وتشربُ اللبن. لا تأكل السمك نهائيًّا ولك أن تشرب اللبن.
2- السعة في التعبير:
فالكلمة تحمل معها في أي مكان علامتها الإعرابية فيمكن بذلك أن تقدم وتؤخر حسبما تريد أن تؤثر في السامع:
أعطى محمدٌ خالدًا كتابًا.
محمدٌ أعطى خالدًا كتابًا.
خالدًا أعطى محمدٌ كتابًا.
كتابًا أعطى محمدٌ خالدًا.
كتابًا خالدًا أعطى محمدٌ.
أعطى خالدًا كتابًا محمدٌ.
(كم ترجمة لهذه الجملة؟)
3- الدقة في المعنى:
الإعراب يعطي المتكلم دقة في التعبير عن المعنى الذي يريده بنفس الكلمات، ويمكن أن نعود للجملة السابقة لنعرف معانيها المختلفة:
1- أعطى محمدٌ خالدًا كتابًا: هذه الجملة تقال والمخاطب خالي الذهن عن الموضوع فهو إخبار للمخاطب بما لا يعلم عنه شيئًا.
2- محمدٌ أعطى خالدًا كتابًا: المخاطب يعلم أن شخصًا ما أعطى خالدًا كتابًا، ولكنه لا يعلم المعطي أو يظن أنه غير محمد، فتقدم المسند لإزالة هذا الوهم من ذهنه.
3- خالدًا أعطى محمدٌ كتابًا: المخاطب يعلم أن محمدًا أعطى كتابًا شخصًا ما ولكنه يجهل هذا الشخص أو يظن أنه غير خالد، فقدمنا خالدًا لإزالة هذا الوهم من ذهنه.
4- كتابًا أعطى محمدٌ خالدًا: المخاطب يعلم أن محمدًا أعطى خالدًا شيئًا ما ولكنه لا يعلم هذا الشيء الذي أعطي، أو يظن أنه أعطاه شيئًا غير الكتاب، فقدمنا الكتاب لإزالة هذا الوهم من ذهنه.
5- كتابًا خالدًا أعطى محمدٌ: المخاطب يعلم أن محمدًا أعطى شخصًا ما شيئًا ما، ولكنه لا يعلم هذا الشيء ولا الشخص، أو يظن أنهما غير المذكورين، فقدمن المفعولين لإزالة هذا الوهم من ذهنه.
6- أعطى خالدًا كتابًا محمدٌ: هنا أخرنا الفاعل وقدمنا المفعولين، لأنهما أهم من الفاعل عند المخاطب، وذلك لأن محمدًا من شأنه أن يعطي، لكن الغرابة أو المهم انه أعطى خالدًا كتابًا، وفي اللغة العربية إنما نقدم الذي بيانه أهم ونحن ببيانه أشد اهتمامًا من غيره، كما يقوله سيبويه بالمعنى.